2021/12/12 | 0 | 4061
أول الكلمة وآخرها
مجلة اليمامة
كلما نطقتُ الكلمة
وقعت أنفاسي على الأرض .
كلما نزعت الكلمة من القاموس
ورميتها خارج اللغة ، تعود إلى مكانها
بعدما يضخ الله في مفاصلها المعنى.
كلما وقف البحر على قدميه ، وانتصب أمامي
أرى الكلمة تجف وتتيبس .
أرى ليلها يتكسر على حافة لساني ، وأولادها ينامون عراة تحت ظلال ذاكرتي .
لكنها تعود كما كانت ؛ لأن البحر نفسه سرعان ما يلتفت إلى الوراء ويقرر المشي.
كلما أحدثتُ ثقبا برأس الكلمة ؛ كي أدع ماضيها ينزف على يدي ، يضع ملاك يده على الثقب ، ويقول : الدم ذخيرتك لا تدعه يلامس الهواء .
كلما أعارني قريب من العائلة كلمته ، وأرفقها بورقة مكتوب عليها تعليمات الاستعمال ، وتعليمات الحفاظ عليها سليمة حتى وقت إعادتها له . أفاجأ أنها تذهب مباشرة إلى الثلاجة وتغلق على نفسها الباب ، وحين أحاول فتحه ، يلذعني ماس كهربائي ، فأمتنع.
كلما لمست جدارا في طريقي إلى بيتك
يتحول إلى كلمة ،
وكلما لمست بابا أيضا تختفي الكلمة
لا أسأل لماذا ؟
ولا أريد .
لكنني تعلمت لاحقا أن أضع قفازات على يدي
تجعل الجدار لا يتحول ، والباب يختفي .
كلما نظرتْ الكلمة إلى ساعتها ، ثم حدقت في عينيّ
أدركتُ الحقيقة ، الخروج الآمن من حريق اللغة ، لا يتحقق إلا برجال إطفاء أكفاء ومسعفين محترفين .
كلما كانت الكلمة تنزل عن ظلالها كنت أسرقها رغبة لإهدائها إلى ظلي حتى لا يهرب.
كلما تصعد الكلمة إلى السماء تأخذ معها شيئين لا ينفكان يذكراني بها دائما : حالات الصرع وحالات الصراخ .
وحين تعود بعد غياب طويل ، أرى في يديها كتابين تهديهما لي : كتاب الصرع وكتاب الصراخ .
كلما رنّ جرس المنزل
وقالت الكلمة : أنا
أسرعت ووضعت غبار لمساتي
في المدخل المفضي إلى الصالة حيث أجلس
لأن الكلمة صديقتي لا تبصر
ولأن اللمسة هي دليلها الأقوى .
تعود أن يضع سريره قرب سرير الكلمة ، وينام
تعودت الكلمة أن تتسلل إلى أحلامه ، وتنام في إحدى مجازاته .
ذهب النوم وجاء آخر ، اختفت الأحلام وجاءت أخرى ، غيرّ مكان سريره ، وخيّر الشراشف والوسائد بين أن تظل أو تغادر ، فتح نافذة غرفته للريح ، لم يبق نقش على السرير ، أو رسم للكلمات على الجدار ، أو صورة معلقة لعائلة الكلمة إلا وحملتَها .
رغم كل ذلك ظلت الكلمة نائمة في المجاز ذاته ولم تستيقظ أبدًا .
في أشدّ مواقفه ضعفا ، يبتزه الخوف بعد هروبه من الجسد : إمّا تجلب لي الكلمة حالا ، وإمّا أنشر صورتك الحميمة على مرأى العالم.
يبحث عنها في الأسواق ، في المحلات التجارية ، بين الأصدقاء . في تاريخ اللغات المنسية ، ينشر خبرا في تويتر عن ضياعها .
لكن دون جدوى .
عليه الآن ، أن يرمي عظمة الانتظار على كلب (الخوف) ١حتى لا ينبح كثيرا ،
عليه أن ينتظر الانتظار ؛ لأن فيه خلاصه .
فالخوف يخاف أن يعود إلى جسده مرة أخرى ، والكلمة بدورها تخشى العودة إلى الخوف ، وهو ما بينهما رسالة عسكرية لا زالت مشفرة منذ الحرب العالمية الثانية.
حين نزلت الكلمة على رؤوسهم ظنوا أنها قذيفة ، وقد مزقت أجسادهم وجعلتها شظايا : الأقدام تطايرت حتى وصلت أطلال قصيدة أمرؤ القيس وأخفت آثاره ، الأيدي المبتورة وقعت بشدة على كلمة ( تعرفني ) في بيت المتنبي : الخيل والليل والبيداء .. ألخ وكسرت وزنه ، ولم تعد تعرفه .
عظام الرأس العارية عن لحمها فاجأت الجميع ووقعت نقطة في آخر سطر من ملحمة جلجامش .
لكن أعينهم لم تبرح مكانها ولم ينطفئ نورها ، ودماءهم احتمت خلف دروع حديدية مصنوعة من البلاغة القديمة.
حينها علموا أنهم أحياء ، وأن الذي نزل لم يكن سوى حرف الميم فقط من كلمة المخيلة المعلقة فوق رؤوسهم مثل مروحة .
أفقتُ مذعورا على أنين الكلمة بجانبي ، والناس يتزاحمون في اختلاس النظر لكلينا
قلت : ما الأمر ؟!
أشار أحدهم إلى سيارتي ( البيك أب) المنقلبة وسط الطريق . ألتفت يمنة ويسرة ، أجلت النظر . لم أر سيارة أخرى ولا ضحية مصابة .
وقعت في حيرة من أمري . وحين حدقت في الكلمة باستغراب ، رفعت رأسها وقالت بصوت خافت :
ألم نعقد اتفاقا قبل يومين ، أنت تعبر بي خارج الحدود وأنا أمنحك جميع قصائدي في الرثاء ، ممهورة باسمك؟!
وكأني شخص فقد ذاكرته ، بفعل الحادث ، مضيت
وخلفي يتبعني هذا الأنين. سنوات مرت ولا زال يتبعني ،
يتحين الفرصة تلو الأخرى ؛ كي يقترب ، ويقول :
أرجوك أرجعني إلى قصيدة الرثاء التي سقطت منها .
بعد حياة حافلة بالحب والصداقة بينهما ، أخذ قراره أن يهجر الكلمة إلى الأبد ، ملّ من تدخلاتها بينه وبين أشيائه الخاصة : الحب يريد أن يلمسه لا أن يقوله ، حجر الرغبة يريد أن يلامس جسده العاري ، لا أن تكون الاستعارة حاجزا بينهما ، لا يريد أن يقول هذه زهرة ثم يلمسها ، بل يريد من الاسم أن يدفن نفسه ولا يخرج ، يريد أن ينتعل النهر ويحضن الشجرة ويحدق في عتمة الليل ويسمع شدو العصافير ، ثم بعد ذلك لتذهب الكلمة إلى عائلتها في بئر القواميس ، وترمي نفسها هناك .
محمد الحرز
1- مستوحى من عنوان للشاعر سركون بولص " عظمة أخرى لكلب القبيلة "
جديد الموقع
- 2024-12-19 (قصة عجائبية من المخيال الاجتماعي الشعبي) (حلال المشاكل...القصة التي حفظتها أمهاتنا عن ظهر قلب)
- 2024-12-19 جمعية ابن المقرب تحتفي باللغة العربية في يومها
- 2024-12-19 سلطة النوع الأدبي وقراءة النص
- 2024-12-18 لماذا يتفوق الطلاب على الطالبات في مادة الرياضيات؟: وكيف يمكن تضييق الفجوة بينهم في هذه المادة
- 2024-12-18 الغذاء السيء لكل من الأم والأب قد يؤثّر سلبًا ويسبب ارتفاع الضغط وأمراض الكلى المزمنة في نسلهما إلى الجيل الرابع
- 2024-12-18 ورشة المرأة في اللوجستيات _ بمؤمر سلاسل الإمداد و الخدمات اللوجستية بالرياض
- 2024-12-18 جامعة الملك فيصل بالاحساء تحقق المركز الثالث في قياس التحول الرقمي لعام 2024 على مستوى قطاع التعليم والتدريب
- 2024-12-18 سمو محافظ الأحساء يدشن "برامج أكاديمية ريف السعودية"
- 2024-12-18 الأحساء.. وجهة سياحية تنبض بالتاريخ والطبيعة الخلّابة
- 2024-12-18 اللغة العربية في التعريب